قبل ان يأتينا طوفان الفضاء الاعلامي وما في جعبته من كوارث ومآس كان ثمة حدث صباحي لافت، صباحات يومية تعقدها نسوة الحارة او الحي وربما القرية كامل، صباحات حافلة بكل ما يخطر في بالك من احاديث
تبدأ من مناقشة امور الطبخ وصولا الى قضايا ابعد غورا، ربما كان البعض ينظر اليها على انها نوع من الثرثرة او النميمة على من لم تحضر، صحيح انها تحمل في طياتها الكثير مما يقال وما لايقال، وتصل الى حد الثرثرة واللغو الذي نظن انه ليس بذي زرع او فائدة .
جارتنا،ام محمود،وقبل انطلاق جزيرة الهذر والثرثرة، كانت تقول بكل فخر: انها قادرة على نشر الخبر اكثر مما تفعله مونت كارلو في عز انتشارها، وحين ظهرت الجزيرة وبدأت تأخذ دورها في استلاب العقول وتعطيل مجالس النسوة، قالت ام محمود معلقة : محطة ثرثرة وسخافة وصراخ ( وعياط) جلستنا افضل منها، واستطاعت ان تعيد شيئا من ألق المجلس الذي فقد بريقه لبعض الوقت بحكم طغيان الفضائيات الوافدة وما تحمله من اشكال والوان .
ام محمود التي كانت ترى ان اللسان (فرمة لحم) كيفما ادرتها تدار، أي بمعنى آخر تتحدث كما تريد، فانت امام الحديث الجاد، بين كلمة حق، او باطل، بين الخير او الشر، ولكن اللافت في الامر ان احدا ما لم ينتبه الى ان الثرثرة المنفلتة هي ذاتها التي يستعملها البث الفضائي الحاقد والغزو الذي أتانا من كل حدب وصوب، صحيح ان الكثيرين يقولون عن فلان : ثرثري دعه وشأنه لكنهم في الاغلب يصغون اليه، وينشرون ما يردده، ورويدا رويدا يصبح ذا رأي وقيمة ويحفر مجراه عميقا حيث هو، وهنا لانذكر ابدا برواية الراحل نجيب محفوظ ( ثرثرة فوق النيل ) وما آل اليه أبطالها.
فالثرثرة ليست لغوا، ولاهي كثرة الاكل كما في احد معانيها بل هي اسلوب يحمل الكثير من الخبث والدهاء واستثمار مضامين ما يردد، ولسنا بعيدين في هذا الشرق الكئيب عن ثرثرة الكبار والصغار .
لا . بل ربما نكاد نجزم ان العنوان الاساس الان هو الثرثرة التي علينا ان ننتبه الى مضامينها وتوجهاتها وهي صنو ومرادف للاشاعة، بل احد اوجه وشناعات الاشاعة لأن مجالاتها أكثر اتساعا وهي لا تحتاج إلا لجلسات صباحية او مسائية، ناهيك بالمستعدين والمتفرغين لها في الازقة والاحياء، واماكن العمل حيث يجلس الكثيرون يشرّحون هذا وذاك، لاعمل لهم، انما تمضية الوقت ريثما يحين وقت أمر ما.
والثرثرة عند الكثيرين ممن هم في مواقع المسؤولية يهرفون بما يعرفون، وما لايعرفون، يطالعونك كل صباح ومساء بثرثرة جديدة تقودنا الى المزيد من الهمّ والغمّ، وارتفاع الاسعار والاحتكار والاستغلال، يعدونك بالمنّ والسلوى، وما تكاد تطبق جفنيك وتنام حالماً بما وعدوا به، حتى يوقظك علقم ثرثرتهم،يثرثر قلمك ناقدا، مشرّحا، ويأتيك من يقول: اتركهم يكتبوا ما يريدون، ونحن نطنش كما نريد (كلام جرايد ومن يقرأ) ولكنهم حين وقت (البروظة) يتهافتون امام كاميرات الاعلام مقروءا، مكتوبا، المهم ان تلتقط لهم صورة ليست للتذكار ابدا انما للمباهاة انهم يعملون، وليس لديهم أي وقت يضيعونه الا بالعمل واطلاق التصريحات والجولات لملاحقة صدى ما اطلقوه .
والغريب في الأمر ان ثرثرتنا مجرد حبر على ورق وثرثرتهم تثمر وتؤتي أكلها، في كل النواحي وتفرد جناحين تطير بهما بأسرع من حمام زاجل، وحبر الحقيقة يجف على الورق ويقولون عنه: ثرثرة، لكنه يبقى مهيض الجناح يرونه بأعين مغمضة وآذان من طين، ويبقى كل ما قرأته ثرثرة لكن على الورق.